فصل: مسألة يقضي له القاضي بقرية ثم يموت القاضي أو يعزل قبل حوز المقضي به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل فيريد أن يبني دارا تضر بالأندر:

وسألته عن الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل، فيريد صاحب الأرض أن يبني فيها دارا، والبنيان يضر بالأندر، ويمنع صاحبها من الريح عند الذري، حتى يكون في ذلك إبطاله، أيجوز ذلك لصاحب الأرض؟ قال: لا يجوز له أن يبني بموضع يبطل به أندر رجل قد تقادم انتفاعه به ودراسته فيه، ولا أن يضر به في قطع المنفعة عنه. قلت: أفيمنع الرجل من البناء في أرضه لموضع الضرر بصاحب الأندر؟ قال: نعم، يمنع من ذلك إذا أضر ذلك بصاحب الأندر، وإنما الأنادر المتقادمة عندنا كالأفنية وما أشبهها، لا يجوز لأحد التضييق على أهلها، ولا قطع منفعتهم منها.
وسئل سحنون عن الرجل يكون له الأندر يدرس فيه، وفي جوار أندره أرض لرجل، فيبني الرجل في أرضه دارا أو بيوتا، فأضر ذلك بصاحب الأندر، وأكنه من الريح، ويمنعه ذلك من أن يدرس فيه، وكيف إن كان البناء قبل الأندر، ثم أحدث هذا الأندر فأضر ذلك بصاحب البنيان، ووقع تبنه في داره؟ وكيف إن كانت جنانا أو مقصلة، فأضر تبنه بجنان هذا أو مقصلته؟ قال: ليس لصاحب الأندر أن يحدث على صاحب البنيان أندرا، إذا كان ذلك يضر به كما وصفت لك، وهو مثل الذي يحدث في جوار الرجل الأفران والحدادين، فيضر ذلك بجاره، فإنه يمنع من ذلك، ويقضى عليه بذلك، ثم ينظر في صاحب الأندر، فإن كان الأندر قبل البنيان، فلا يغير الأندر عن حاله، ولصاحب البنيان أن يبني، ولا يمنع من البنيان بما ذكرت من ريح ولا دراس، وإنما نظيرتها عندي لو بنى رجل، فرفع بنيانه حتى يمنع جاره الضوء والريح والشمس، لم يمنع من رفع بنيانه، قيل: فلو أن أندر الرجل في جوار أندر رجل نصب فيه قشاقيره، فقال له جاره: إن قشاقيرك تمنعني من الريح في أندري، فاقلعها عني، إن ذلك ليس له، ولا يقلع عنه زرعه إذا كان، إنما ينازعه في أرضه بعضه فوق بعض، وهو الصواب إن شاء الله.
وقال ابن نافع: لا أرى لأحد ممن لا حق له في الأندر أن يحدث عليه بنيانا يضر فيه بأصحاب الأندر، وليس للرجل أن يحدث على جاره بنيانا يضر به في أندره، ولينح ذلك إلى مكان لا ضرر فيه على صاحب الأندر. وقال عبد الله بن نافع: وسواء احتاج إلى البنيان، أو لم يحتج إليه؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا ضرر ولا ضرار»، قال سحنون مثل هذا القول يمنع من أراد أن يبني دارا من ناحية الريح، إذا كان الأندر قديما قبل بناء هذا، وهو أحسن من قوله الأول.
قال محمد بن رشد: ما يحدثه الرجل في ملكه مما يضر بغيره؛ ينقسم على ثلاثة أقسام؛ منه ما يمنع باتفاق، ومنه ما لا يمنع باتفاق، ومنه ما يختلف في وجوب الحكم بالمنع منه، فما يمنع باتفاق أن يحدث الرجل الأندر في جوار دار الرجل، أو جنانه فيضر به ما يقع في داره، أو جنانه من تبن أندره عند الذرو، ومن ذلك ضرر الدخان، مثل أن يحدث بقرب داره حماما، أو فرنا.
ومنه ضرر الروائح القبيحة مثل الدباغ يؤذي جاره بما يحدثه عليه من الدباغ، ومنه ما يضر بالجدرات، مثل أن يحدث كنفا إلى جانب حائط جاره، أو أرحية تضر بجدراته وما أشبه ذلك، ومنه ضرر الاطلاع، مثل أن يحدث كوة أو بابا يطلع منه على دار جاره، أو يتخذ عليه قصبة يشرف منها على عياله، وفي هذا اختلاف شاذ، قيل: إنه لا يمنع، ويقال لجاره: استر على نفسك في حقك إن شئت، روي ذلك عن أشهب وابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة المخزومي، ومحمد بن صدفة الفدكي، من أصحاب مالك.
ومما لا يمنع باتفاق أن يحدث فرنا على مقربة من فرن آخر أو حماما على مقربة من حمام آخر، فيضر به في قلة عمارته وانتقاص غلته، ومن ذلك أن يبني في داره بناء يمنع به الضوء والشمس والريح عن دار جاره، ومن ذلك ضرر الأصوات كالحداد، والكماد، والنداف؛ حكى ابن حبيب: أنه لا يمنع، وقاله مالك في رواية مطرف عنه، وفي هذين الوجهين اختلاف شاذ. روى ابن أبي دينار، عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الضوء والريح والشمس، وذهب بعض الفقهاء المتأخرين إلى أنه يمنع من ضرر الأصوات، واستدل بما روى من قول سعيد بن المسيب لبرد: اطرد هذا القارئ عني، فقد آذاني، يعني عمر بن عبد العزيز، وهذا لا دليل فيه، وقد مضى القول عليه في سماع أشهب، من كتاب الصلاة.
ومما يختلف في وجوب المنع منه أن يحدث الرجل في أرضه بناء بقرب أندر جاره، يمنعه به الريح عند الذرو، فقال ابن القاسم وابن نافع: إنه يمنع، واختلف فيه قول سحنون على ما وقع هاهنا، والأصل في هذا الاختلاف ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر» ومنع الرجل من البناء في أرضه ضرر به، وإباحة ذلك له إذا حبس به الريح عن أندر جاره ضرر بجاره، فمن رأى باجتهاده ترك الرجل الانتفاع بالبناء في أرضه أحق عليه من ترك صاحب الأندر الانتفاع بأندره منعه من ذلك، ومن رآه أشد عليه لم يمنعه منه، والأظهر ألا يمنع من ذلك؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال فيما روي عنه: «كل ذي مال أحق بماله، وكل ذي حق أحق بحقه، وكل ذي ملك أحق بملكه»، فوجب ألا يمنع أحد من البناء في حقه، والانتفاع بملكه، إلا بيقين أن ذلك يضر بجاره أكثر مما يضر به هو؛ ترك ذلك.
ولا يقين في ذلك، بل الأظهر أن الضرر عليه في ذلك أشد؛ لأن المنفعة بالبنيان في البقعة متصل في جميع الأزمان، والانتفاع بالأندر إنما هو في زمان خاص من الأزمان، ووجه القول الآخر أن صاحب الأندر قد حاز منفعته بالسبق إليها، فليس لأحد أن يبطلها عليه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: لم يختلف في الكماد والطحان بجوار الرجل أنهما لا يمنعان، وإن كان ذلك محدثا، يضر بأسماع الجيران، فإن أضر بالبناء منعا.
قال: وكذلك الدباغ والدقاق لا يمنعان، وإن أضرت الرائحة بالجيران، فإن أضرت بالبناء منعا. قال: فأما الفرن والحمام فإنهما يمنعان إذا كانا محدثين؛ لأن الدخان يسود الحيطان والأبواب والسقف، ولم يمنعا من أجل الضرر بأنوف الجيران، وإنما منعا من أجل الضرر بفناء الدار، وعلى هذا قياسه. فأما من أحدث بناء يستر عن جاره الضوء والريح وغيره، فلا يمنع من ذلك، إنما الريح حق في الأندر وحده. هذا نص قوله، وليس بصحيح على ما قد بان بما أوردته، وبالله التوفيق.

.مسألة يقضي له القاضي بقرية ثم يموت القاضي أو يعزل قبل حوز المقضي به:

ومن كتاب الأقضية:
قال: وسألته عن الرجل يقضي له القاضي بنصف قرية أو بجزء من أجزائها، ثم يموت ذلك القاضي، أو يعزل قبل أن يحوز المقضي له بذلك القضاء، وإنما قضى له بجزء مفروز معروف ينسب إلى رجل كان المقضي له بذلك اشتراه من ذلك الرجل، فلما أراد الحوز والقبض لم يجد بينة تحوز له ذلك الجزء بعينه، وينكر أهل تلك القرية أن يكون للمقضي له أو المقضي عليه في تلك القرية حق، فيقوم له البينة أن ذلك الجزء كان معروفا للمقضي عليه إلى أن باعه من المقضي له، فيريد أن يقاسم أهل القرية كلهم؛ إذ لا يجد من يحوز جزءه ذلك، وقد ثبت له به القضاء والاشتراء، قال: نعم، أرى له أن يقاسمهم، فيكون شريكا في جميع القرية بحسب ذلك الجزء، قلت له: أرأيت أهل القرية الذين بيد كل واحد منهم حق له معروف؛ إذ أمرت هذا المقضي له بمقاسمة أهل القرية كلهم أيأخذ من كل إنسان منهم سدس ما بيده إن كان الذي ثبت له من جميع القرية سدسها؟ أو على هذا الحساب في قدر ما قضي له به؟ وكيف إن خلطت الأرض كلها، فيقسم له منها الجزء الذي قضي له به، فوقع في ذلك الجزء الذي قسم له حظوظ رجال من أهل القرية، وبقي سائرهم لم يؤخذ مما في يديه شيء؟ فلم يجب في ذلك بشيء، ولم يفسر لي فيها وجها يقسم به.
قال القاضي: المعنى في هذه المسألة أن المقضي عليه كان له في القرية جزء مشاع سدس أو ربع أو نصف، أو ما كان من الأجزاء، فقاسم أشراكه في القرية، وقبض جزءه مفروزا، وحازه وباعه من رجل، ثم أنكر البيع فحاكمه إلى القاضي، وأثبت عنده ملك البائع لذلك الجزء بعينه، وأنه كان معروفا له وفي يديه، إلى أن باعه منه، فحكم له بذلك الجزء بعينه على ما يجب، وأشهد له على حكمه، فتوانى في القبض والحوز إلى أن مات القاضي أو عزل، فلما قام بعد موته أو عزله ليقبض ذلك الجزء الذي حكم له القاضي به أنكره أهل القرية، وقالوا: لم يكن للمقضي عليه في هذه القرية حق، فأقام البينة على حكم القاضي له بذلك الجزء بعينه على المقضي عليه بما ثبت عنده من أنه كان له إلى أن باعه منه، ولم يجد بينة تحوز له، فوجب أن يقاسمهم كما قال، فيكون شريكا لهم في جميع القرية بحساب ذلك الجزء، وكان وجه العمل في ذلك أن يكون شريكا لكل واحد منهم بما بيده من القرية بحساب ذلك الجزء، على ما قاله في الرسم الذي بعد هذا، ولا تعاد القسمة في الجميع؛ إذ لم تنتقض القسمة فيما بينهم، وإنما وجب له منهم في القرية بوجه لا مدفع لهم فيه، فوجب أن يأخذ مما بيد كل واحد منهم سدسه، إن كان السهم السدس أو ما كان، كان أقل من ذلك أو أكثر، وإن كان بعض أهل القرية ورثة المقضي عليه، وفي أيديهم من القرية مثل ذلك الجزء، فأكثر أخذ المقضي له ذلك الجزء مما في أيديهم، ولم يكن له دخول على من سواه من أهل القرية على ما قاله أيضا في الرسم الذي بعد هذا.
وذهب سحنون في هذه المسألة إلى أنه لا شيء للمقضي له فيما في يد الأجنبيين إلا من كان في يده منهم زيادة على ذلك الجزء، أخذ المقضي له تلك الزيادة، فلو كانت القرية لرجلين بيد كل واحد منهما نصفها لم يقض له على واحد منهما بشيء، وكذلك لو كانت لثلاثة أنفس لكل واحد منهم ثلثها، والجزء الذي حكم له به الثلث فأقل لم يقض له على واحد منهم بشيء. هذا قول سحنون، ووجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهم يقول: لا تأخذ مما بيدي شيئا إلا أن يثبت أن حقك فيه؛ إذ لعل حقك إن كان لك حق إنما هو في يد غيري، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه قد ثبت أن حقه في القرية، فلابد أن يوصل إليه، وليس بعضهم بأحق أن يؤخذ ذلك منه من بعض، فوجب أن يؤخذ من جميعهم، وبالله التوفيق.

.مسألة خاصم لبني أخيه في شيء فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي:

ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر:
قال: وسألته عن رجل خاصم لبني أخيه في نصف منزل كان لهم حتى قضي به، فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي الذي حكم لهم به، ومات المقضي عليه، فلما طلب بنو أخي الرجل قبض ما قضي لهم به منعهم رجل من أهل القرية، وقال: لم يكن للخصم الذي قضي عليه عندنا في هذه القرية قليل ولا كثير، فإن كان قضي لكم عليه بشيء كان بيده، فهاتوا بينة تحوز لكم وشأنكم به، وقال المقضي لهم: قد ثبت لنا القضاء بنصف المنزل، فإذا غيرتم حوزنا، ولا نجد من يقوم بحوزه لنا، فنحن أشراك لكم في جميع المنزل بالنصف.
فقال ابن القاسم: ينظر في القضاء الذي قضي به لهم، فإن كان قضي لهم بنصف المنزل، وهو معروفا في يد المقضي عليه وله، فقد ثبت لهم ما كان له، فإن كان الذي في يد المقضي عليه في يد ورثته، أو قوم قد اشتروه منهم دفع ذلك النصف الذي كان في يد الخصم المقضي عليه إلى هذا المقضي له، فإن تجاهل فيه أهل القرية وأخفوا حوزه نظر في أمرهم، فإن كان بعضهم ورثة الميت، وفي أيديهم مما ورثوا عنه نصف جميع المنزل فأكثر، أعطى المقضي له نصف جميع المنزل مما في أيدي ورثة المقضي عليه، وإن كانوا كلهم أجنبيين، وقد ثبت عليهم أن نصف المنزل الذي قضي لهؤلاء به كان معروفا في يد المقضي عليه حتى استحقه هؤلاء بالقضاء، فإنه شريك في جميع حوز المنزل الذي قضي به لهؤلاء، ولا يجمع له النصف في إحدى ناحيتي المنزل، ولكن يؤخذ من كل رجل من أهل تلك القرية نصف ما في يديه؛ لأنا لو جمعنا له النصف استوعب ما في أيدي بعضهم، ورجع بعضهم على بعض بأمر عسير في القسمة لا يحاط به، فأعدل ذلك أن يأخذ من كل رجل نصف ما بيده، حتى يوقعه على نصفه بإقرار منهم وإظهار لحوزه، قال: وإن لم تقم له بينة أن نصف ذلك المنزل كان في يد المقضي عليه، ولا معروفا له يوم حكم به عليه، فلا شيء له في المنزل؛ لأنه إنما قضي له حينئذ على رجل بحق لا يملكه، وليس بشريك لأهل المنزل فيه، ولو جاز مثل هذا عند القضاة لم يشأ رجل أن يصنع لنفسه خصما، فيقضى له عليه بما ليس في يديه من أموال الناس ورباعهم إلا فعل، فلا أرى أن يلزم أهل القرية ما فسرت لك من مقاسمة المقضي له، حتى يثبت البينة أن ذلك الحق كان في يد الخصم وهو يوم قضي عليه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، وما فيها من الزيادات عليها فنبينها، وإنما قال: إنه لا شيء للمقضي له بهذا الحكم، إلا أن تقوم بينة أن ذلك كان في يد المقضي عليه معروفا له يوم الحكم عليه به؛ لأن القضاء عليه إنما كان ما به باعه منه، إما ببينة قامت عليه بذلك، وهو منكر، وإما بإقراره به على نفسه، والبيع لا يوجب الملك للمشتري؛ إذ قد يبيع البائع ما ليس له، فإذا لم يجب الملك للمشتري بالشراء إلا بعد ثبوت ملك البائع لما باع يوم باع لم يتم القضاء للمحكوم له بالشراء إلا بعد ثبوت الملك للمحكوم عليه يوم الحكم، وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة الجارية أو العبد يدعي الحرية وشهوده غير حضور:

من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن القاسم وابن وهب وأشهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم عن الجارية أو العبد يدعي الحرية فيقال له: إيت بشهودك، فيقول: شهودي في موضع كذا وكذا، وبها قاض فارفعني وإياه، فيقول صاحب الغلام أو الجارية: لا أرتفع معك، ولكن إيت بشهودك هاهنا، فيقول العبد: أنا أضعف عن ذلك، وليس أحد يقوم لي، ولا تأتيني ببينة، فهل يرفع إلى موضع بينته كان قريبا أو بعيدا، أحب ذلك السيد أو كره؟ وكيف الأمر في ذلك؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن يرفع مع العبد، ولو جاز هذا للعبيد خرجوا من أيدي أربابهم بالتبطل عن أعمالهم، ولكن إن كان الذي ذكره العبد قريبا مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، أو يأتي بشاهد عدل وحميل بقيمته كتب له برفع بينته، وكذلك سمعت مالكا يقول: وإن لم يأت بحميل لم يمكن من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ناقصة ملتبسة، وتلخيص وجه الحكم فيها يفتقر إلى تفصيل، وذلك أنه لا يخلو ما ادعت الجارية أو العبد من الحرية أن يسببا له سببا، مثل الشاهد الواحد العدل، أو الشهود غير العدول، أو لا يسببان لذلك سببا.
فأما إذا سببا لذلك سببا؛ فإن السيد يوقف عن الجارية، ويؤمر أن يكف عن وطئها، إن كان مأمونا، وإن لم يكن مأمونا وضعت على يدي امرأة، ويضرب في ذلك أجل الشهرين أو الثلاثة، قاله مالك في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، وإن سألت أن ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها، كان ذلك لها إن كان الموضع قريبا، وإن ادعت أن بينتها بموضع بعيد، فقيل: ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها. وهو قول أصبغ في الواضحة، وقيل: إنه لا يلزم سيده أن يرفع معه إلى موضع بينته، ويقال له: ضع حميلا بقيمتك، واذهب إلى موضع بينتك، وهو ظاهر قول ابن وهب في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الشهادات، وإن لم يأت بحميل طرح في السجن، ووكل من يقوم بأمره، قاله مالك فيما سأل عنه ابن كنانة لابن غانم، ومعناه إذا دعا لذلك السيد، وقال: أخشى أن يهرب لادعائه الحرية، وأما إذا لم يسبب لذلك سببا من بينة، ولم يأتيا بسوى الدعوى، فلا يخلو من أن يكون لما ادعيا وجه يشبه، ويعرف مثل أن يدعيا أنهما من أهل بلد، قد عرف واليه بالتعسف على أهل ذمة ذلك البلد وبيعه لهم، أو ينتسب إلى قوم معروفين، ويأتي على ذلك بأمارة ظاهرة وما أشبه ذلك، أو لا يكون لدعواهما وجه يشبه ويعرف، ولا يخلو من أن يكون موضع بينتهما قريبا، فإن الإمام يأخذ من سيدهما حميلا ألا يخرج به ولا يفوته، ويكتب له كتابا إلى ذلك الموضع.
فإن جاءه جواب كتابه بما يستوجب به الرفع مع سيده، أو الذهاب بحميل يأخذه منه بقيمته حكم بذلك، وإن لم يكن لما ادعيا وجه يعرف، وكان موضع بينتهما بعيدا لم يلزم سيدهما بشيء. واختلف إن لم يكن لما ادعيا وجه، وكان الموضع قريبا، فقيل: لا يلزم السيد بشيء، وهو دليل ابن القاسم في هذه الرواية، إن كان الذي ذكره العبد قريبا على مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، يريد ويؤخذ من سيده حميل، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: يكتب لهما ويتخذ على سيدهما حميل ألا يفوتهما، وهو قول عيسى في كتاب الجدار.
واختلف أيضا إن كان لما ادعيا وجه، وكان الموضع بعيدا، فقيل: إنه لا يلزم السيد شيء، وهو دليل هذه الرواية؛ لأنه لم ير أن يكتب له إلا أن يكون الموضع قريبا، ويأتي بأمر يعرف، وقيل: إنه يكتب لهما، ويؤخذ من سيدهما حميل بهما، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، عن مطرف وأصبغ. وانظر إذا أخذ من العبد حميل بقيمته، فذهب إلى موضع بينته فهرب أو مات في الطريق، أو قتل، أو حدث به عيب، ولم يصح له من دعواه شيء ما يكون الحكم في ذلك؟ والذي أراه فيه على ما يوجبه النظر والقياس أن يضمن الحميل قيمته إن أبق، أو قتل وما حدث به من العيوب بسبب سفره، ولا يكون عليه شيء فيما حدث به من العيوب بغير سبب سفره، ولا في موته إن مات، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده:

وسألت عبد الله بن وهب عن رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده، فخاف أن يجهل أمره، ويكلف البينة على معرفته بعينه واسمه ونسبه، وله بينة يعرفونه على مسيرة يومين أو ثلاثة، ممن لا يعرف بالبلد الذي أراد الخصومة فيه، فذهب إلى موضع بينته تلك، وبها قاض من قضاة المسلمين، فأتى بشهوده أولئك الذين يعرفونه باسمه وعينه، ونسبه إلى قاضي ذلك البلد، فشهدوا عنده على معرفة الرجل بعينه ونسبه، وعلى أنه ورث الذي يطلب المورث من قبله، فقبلهم ذلك القاضي بمعرفة، أو بعدالة من عدلهم عنده، ثم كتب له بما ثبت عنده من نسبه بشهادة أولئك الشهود إلى القاضي الذي يطلب ببلده مورثه أو حقه، وذلك على مسيرة يومين أو ثلاثة، هل يرى القاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يقبل ما أتاه به من ذلك الكتاب، ويكون ذلك الرجل بكتابه ذلك ثابت المعرفة والنسب، وخصمه الذي يطلب قبله ذلك الحق الذي ثبت له بذلك النسب، يقول للقاضي الذي ينظر في أمرهما: إن البينة التي أثبتت نسب هذا حتى جاز له بهم مخاصمتي، لم أحضر شهادتهم، ولعلي أن أدفع علمهم لو حضرته، ويقول له خصمه: إن بينتي لا تعرف إلا ببلدهم، وإنما هو نسبه أثبته عند ذلك القاضي، وكتب به إلى القاضي الذي أنا وأنت نختصم إليه؛ أترى على القاضي الذي يخاصمه إليه أن يكلفه البينة على معرفته ونسبه عنده، حتى تشهد البينة بحضرة خصمه، ولا يكتفي بالكتاب الذي أتاه به؟ وكيف إن كانت تلك البينة التي شهدت على معرفته بعينه ونسبه، إنما يشهدون أن قاضيا من القضاة مثل قاضي إفريقية، أشهدهم أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وهم من موضع القاضي الذي يختصم إليه في هذا الأمر بمنزلة الإسكندرية من مصر، فشهد أولئك الشهود عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا على أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وعرفهم به، فلما قدم عليهم ذلك الرجل، واحتاج إلى علمهم الذي أشهدهم عليه قاضي إفريقية، قاموا بشهادتهم عند قاضي الإسكندرية، فكتب بعلمهم قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر، فهل يثبت نسبه ومعرفته بذلك الكتاب؟ أو حتى يشهد أولئك الشهود بأعيانهم عند قاضي أهل مصر، حيث الخصومة وموضع الطلب بحضرة الخصوم؟ أو يكتفي القاضي بما أتاه في هذا وأشباهه بكتب القضاة، ويكون في إنفاذها سعة له؟
قال له: قد فهمت ما ذكرت، والشأن فيه أن يقبل القاضي ما جاءه به من ذلك، ويثبت عنده من ذلك، وأن يكتب له به حيث أحب، وأن يجيز ذلك المكتوب إليه به، ويحكم به إن كان الحكم فيه عنده، أو يكتب به أيضا إلى غيره إن كان إليه هكذا وإن كثر، وهذا أمر القضاة، وشأن الإسلام، لا يختلف في هذا أهل العلم ولا ينكرونه، وليس لمن جاءه بمثل هذا من القضاة أن يعنت بأن يقول: لا أعرف من شهد لك أو ثبتهم عندي، أو أشخصهم إلي كما ذكرت مما طلب الخصم وسأل، بل يمضي له ما كتب إليه به على ما كتب به القاضي الكاتب أنه ثبت عنده، ثم شأن الخصم المقضي عليه بعد ذلك إن كان عنده مدفع لأولئك الشهود بدفع الحق، ويخرج إليه ما قضى له به، ثم يشخص إلى بلد الشهود والقاضي الكاتب، فيبطل ذلك عن نفسه إن شاء إن كان عنده مدفع، فإن فعل رجع في بينته، وإلا لم تكن له حجة، ولم يحبس هذا بحقه، ويظلم فيه حتى يجلب بينته كما قال الخصم، وسواء أقام ذلك عند قاضي إفريقية بما ثبت له عنده، فيكتب له به، أو أقام ذلك عنده، على الشهادة على قاضي مصر أنه أشهدهم أنه قد ثبت ذلك له عنده على ما سمى وفسر أنفذه له، فيحكم بذلك قاضي إفريقية، ويكتب له بذلك إلى حيث شاء يطلب صاحبه به.
وقال أشهب: إذا ثبت عند قاض من القضاة معرفة رجل بعينه ونسبه ببينة عدول، أنه فلان ابن فلان، فكتب بذلك القاضي إلى القاضي الذي بلده كذا طلبه الرجل أو مورثه، فإنه ينبغي للقاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يكون بكتابه إليه ذلك الرجل ثابت المعرفة والنسب عنده، لا يكلفه إحضار بينة عنده إذا أتاه بكتاب من يرضاه من القضاة، ولا يبالي كان إثبات معرفته بعينه ونسبه عند قاضي إفريقية، وعند قاضي الإسكندرية إذا شهدت البينة عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا أنه قد ثبت عنده معرفة فلان ابن فلان ونسبه، وعرفهم به كتب قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر بما ثبت عنده من شهادة الشهود الذين أشهدهم قاضي إفريقية، فكان ذلك الرجل عند قاضي مصر بكتاب قاضي الإسكندرية ثابت المعرفة والنسب، لا ينبغي للقاضي إذا أتاه كتاب من يرضى من القضاة على معرفة رجل أن يقول له: أحضر البينة عندي، حتى يشهد بمحضر خصمك.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا مثل قول ابن وهب سواء، فلو قال فيه: وقال أشهب مثله؛ لكان أحسن، وهو كله صحيح لا إشكال فيه، ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أن القاضي يعمل بخطاب غيره من القضاة، ويحكم بما خاطبه به أنه ثبت عنده، أو أنه خاطبه به غيره، كان ذلك القاضي الذي خاطب من خاطبه قد ثبت ذلك عنده، أو خاطبه به أيضا غيره، وإن كثرت المخاطبات في ذلك من قاض إلى قاض، وليس للذي ورد عليه الخطاب بثبات حق لرجل على رجل أن يكلف الذي له الحق بشهادة البينة عنده بمحضر خصمه، بل يلزمه أن يقضي له عليه بحقه، إلا أنه يقول له: إن كان عندك مدفع فيمن شهد على الكتاب فادفع، فإن دفع بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن لم يدفع حكم عليه، ويقول له أيضا: إن كان عندك مدفع في الذين شهدوا بنسب الطالب لك أو بحقه عليك، فائت بهم، فإن جاء بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن ادعى المدفع في البلد الذي كتب فيه الكتاب بثبات النسب أو ثبوت الحق، قيل له: أد هاهنا ما ثبت عليك وامض، فإن دفعت شهادة من شهد لخصمك رجعت بما حكم به عليك، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يأبق منه العبد فيقضى فيه في بلد آخر:

وقال: سألت ابن وهب عن الرجل يأبق منه العبد، فيقع ببلده على مسيرة الأيام ثلاثة أو نحو ذلك، فيبلغ ذلك سيده، فيأتي إلى قاضي بلده فيعلمه بإباق عبده، وبموضعه الذي هو به، ويأتيه ببينة عدول، يشهدون أنهم يعرفون له غلاما، يسمى فلانا من صفته كذا وكذا، ويصفون صفته يعرفونه في يديه حتى نشده آبقا.
هل ترى لذلك القاضي إذا شهد عنده العدول بهذا أن يكتب إلى قاضي البلد الذي به ذلك العبد إن وافقت صفته ما وصفه به الشهود أن يدفعه إلى سيده الذي يشهدون له أنه أبق منه، وإن كان العبد منكرا هنالك؛ لأن يكون الذي لحقه بموضعه ذلك كان سيده؟ أو لا ترى شهادتهم قاطعة حتى ينظروا إلى العبد فيعرفونه بعينه؟ وكيف إن ادعى العبد الحرية بالموضع الذي ألفي فيه، وقال: هذه بينتي على حريتي، وأقر أنه سيده، وقال سيده: لا أخاصمك هاهنا؛ لأنك إنما خرجت من يدي آبقا، فأنا أردك إلى مكاني الذي كنت به في يدي، ثم إن كانت لك بينة أو حجة فقم بها عند قاضينا؟
هل ترى أن يرد العبد في يد سيده حتى يرده إلى مكانه؟ أو يؤمر بمخاصمة العبد حيث أدركه، وحيث يزعم أن بينته به على حريته؟ وهل المعرفة به، وهو إن رد إلى مكان سيده لعله ألا يجد بينة تتبعه، وإن اتبعته لا يجد البينة من يعرفها، ولا يعدلها هنالك؟ ففسر لنا هذا الأمر فإنه كثير ببلدنا، أو يلفى العبد في يد رجل يزعم أنه غلامه، هل ينتفع طالبه بالبينة التي شهدت على صفة العبد واسمه، وهو غائب عن البينة، ويرد بذلك في يد سيده الذي أبق منه؟ فقال: نعم، إذا شهدوا عنده على صفة وتحلية وجنس واسم، وكانوا عدولا، وشهدوا أن العبد الذي بهذه الصفة عبد لفلان ابن فلان، هذا المشهود له، لا يعلمونه باع ولا وهب ولا خرج من يده بوجه من وجوه الملك، أحلفه مع ذلك ما خرج من يده بوجه من وجوه الملك، ثم يكتب له إلى قاضي البلد الذي يزعم أنه بها، وأشهد له على الكتاب، وأنه قد أمضى له الحكم فيه، فإذا أتى الكتاب القاضي المكتوب إليه نظر، فإن لم يكن في البلد من هو بتلك الصفة والجنس والحلية غيره أمكنه منه ودفعه إليه، وإن كان العبد عبدا لرجل غيره بتلك البلدة أو حرا، يدعي الحرية كما ذكرت، فينظر له القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانه في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره ولا يشخصه معه إن كانت له بينة، فإن صحت له بينة بحريته أعتقه وأطلقه حرا، وأبطل كتاب المستحق، وما ثبت له عند القاضي، وإن لم يثبت له ذلك دفعه إليه إن لم يكن في البلد بتلك الحالة التي كتب بها أحد غيره كما وصفت، فإن كان بها غيره بتلك الصفة لم يستحق شيئا، ولم يكن له شيء حتى يشهد له الشهود على بعضهم بعينه، وإنما مثل ذلك مثل الدين يثبته الرجل عند قاضي مصر على رجل بإفريقية يسمونه باسمه ونسبه وصفته، فيكتب له بذلك إلى قاضي إفريقية، فإن قاضي إفريقية إذا جاءه ذلك الكتاب كشف، فإن لم يجد بها أحدا غيره على ذلك الاسم والنسب والصفة أعداه عليه وأخذ له بحقه منه، وإن كان بها غيره لم يعده على أحد منهم حتى يثبت حقه بإثبات من هذا من بينة تقدم له على رجل بعينه وما أشبه ذلك، وقال أشهب: أراه له إلا أن يكون بذلك البلد عبد يسمى بذلك الاسم، وله تلك الصفة، فلا يكون ذلك له، أو يدعي العبد الحرية من الذي استحقه في كتاب القاضي، فيقيم على ذلك البينة فيعتق.
قال القاضي: قول ابن وهب هذا: إن القاضي يكتب له بما أثبت عنده من صفة عبده الآبق، كما يكتب له في الدين يكون له على الغائب باسمه ونسبه وصفته، فتقوم الشهادة في ذلك على الصفة مقام الشهادة على العين، ويحكم له بها المكتوب إليه هو قول مالك وجميع أصحابه، حاشا ابن كنانة في المدنية: فإنه لم يجز في شيء من ذلك كله الشهادة على الصفة، وأجازها ابن دينار في الدين، ولم يجزها في الآبق، والفرق بينهما عنده أن الآبق لا يعرف موضعه، ومن تمام الصفة ذكر الموضع؛ ليستحسن هل في ذلك الموضع على تلك الصفة سواه أم لا؟ ولا تتم الشهادة حتى يقولوا: إنهم يعرفونه في يديه ملكا له، لم يزل ملكه عنه في علمهم حتى أنشده آبقا، ثم يحلفه القاضي أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق، ثم يكتب له عند ذلك كتابا باستحقاقه لعبد صفته كذا وكذا، فإن كتب له ولم يحلفه حلفه القاضي وقضى له، وإن مضى بالكتاب وكيله لم يقض له به القاضي المكتوب إليه حتى يكتب إلى قاضي بلده، فيحلفه ويأتيه بذلك كتابه.
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم العتق، من سماع عيسى، وإذا وصل بالكتاب إلى قاضي الموضع الذي هو به العبد؛ فإن الأمر لا يخلو من أربعة أحوال؛ أحدها: أن يجد العبد محبوسا، قد حبسه القاضي بما ثبت عنده أنه آبق، أو غير محبوس إلا أنه يقر بالإباق، وينكر أن يكون هذا الذي لحقه هو سيده ولا يسمى سيده. والثاني: أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب. والثالث: أن يقر للذي لحقه أنه عبده، ويدعي عليه أنه أعتقه. والرابع: أن يدعي الحرية.
فأما الوجه الأول فلا اختلاف في أن القاضي يحكم له به، ويدفعه إليه، على مذهب من يجيز الشهادة على الصفة، وعلى مذهب من لا يجيزها؛ لأنه لو ادعاه ووصفه دون بينة لأعطاه إياه بعد التلوم له واليمين؛ لأنه كاللقطة، وعلى ما في الآبق من المدونة في الأمتعة المسروقة.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب، فإن كان حاضرا فقال: لا حق لي فيه، دفعه إلى طالبه، وإن ادعاه قيل له: إيت بالبينة، فإن أتى بها كان أحق به، وإن لم يأت ببينة قضي به للطالب، وإن كان غائبا كتب السلطان إلى ذلك الموضع، فإن كان كما قال، وإلا أسلم إليه العبد.
وأما الوجه الثالث فكما قال، إن كانت له بينة بحريته أعتقه، وأبطل كتاب المستحق، وإلا دفع إليه عبده.
وأما الوجه الرابع وهو أن يدعي الحرية، فقال في المدونة: إن القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانيه ينظر له في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره.
ووجه العمل في ذلك أن ينظر، فإن كان واقعا بالبلد، ولم يكن من أهله معروفا بالحرية من أصله، ولم يكن له بذلك البلد من يشبهه في صنفه وجنسه واسمه، سئل المخرج بما ثبت عليه من رق هذا، فإن أتى بالمخرج عن ذلك بأن يثبت أنه حر من أصله، أو أنه أعتقه من كان ملكا له بطل عنه الكتاب، وإن لم يأت بشيء دفع إلى هذا عبدا إلا أن يكون في البلد من يشبهه في صفته وجنسه واسمه، فلا ينتفع بالكتاب حتى تشهد البينة أنه هذا بعينه، ومثل هذا حكى ابن حبيب عن مطرف وأصبغ، وهو خلاف مذهب ابن القاسم؛ لأن من مذهبه على ما حكاه الفضل أن الشهادة على الصفة لا تتم إلا بذكر الموضع، والآبق لا يعرف له موضع.
وقوله: إن القاضي المكتوب إليه يكشف هل في ذلك البلد من هو على تلك الصفة والاسم سواه في الآبق والدين؛ صحيح لا اختلاف في أن هذا هو الذي يؤمر به أن يفعله، كما يؤمر بالسؤال والكشف عن أحوال الشهود عنده، فإن لم يفعل كان على المشهود له أن يعدل عنده شهوده الذين شهدوا له، فإن لم يكشف هو عن ذلك، فظاهر قول أشهب أن الحق لازم للموجود على تلك الصفة والاسم في البلد، إلا أن يثبت أن في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. وقيل: إنه لا يعدى طالب الحق عليه، إلا أن يثبت أنه ليس في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو الذي يدل عليه قول ابن وهب، معناه على العلم. وقد مضى ذلك في رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.